موريتانيا: هل تم فعلا تحرير العبيد؟

عندما تزور مقر منظمة "نجدة العبيد" في العاصمة الموريتانية، نواكشوط، ستطالعك على الجدار الملاصق لبابها فقرة من الإعلان العالمي لحقوق الانسان تقول "لا يجوز استرقاق أو استعباد اي شخص، ويحظر الرق والإتجار بالرقيق بجميع صورهما"، علاوة على تعريف بالمنظمة وهي "منظمة غير حكومية ضد العبودية تهدف للدفاع عن حقوق الإنسان وترقيتها". ومقر المنظمة ملحق بمنزل مؤسسها، بوبكر ولد مسعود، الذي ولد عبدا، لكنه تمرد على عبوديته، وعلى واقع أبيه وأمه الذين كانا من العبيد، وتمكن بعد رحلة كفاح طويلة من الحصول على حريته، وعلى شهادة في الهندسة، وسخر حياته لمساعدة من عانوا من قسوة وآلام حياة الرق.
لم نتمكن من لقاء بوبكر نفسه، إذ كان مريضا يتلقى العلاج بإحدى مستشفيات نواكشوط، لكن التقينا في منزله بابنه، وبمجموعة من العاملين في المنظمة الذين تحدثوا عن واقع ظاهرة العبودية في موريتانيا، وعن جهودهم لمواجهتها. وحسبما أوضح أحمد ولد الوديعة، نائب رئيس منظمة "نجدة العبيد"، فإنه لا توجد لدى المنظمة أرقام محددة عمن يعانون من الاسترقاق، ولكن لديها حالات كثيرة لأفراد تعرضوا للرق، وتوجهوا للمحاكم الموريتانية سعيا للحصول على حقوقهم القانونية، إذ أن القانون الموريتاني منع العبودية وجرمها منذ عام 1981. غير أن المشكلة، كما أوضح، هي "أن القوانين لاتطبق، ولا توجد إرادة سياسية لفرضها في المناطق الريفية التي يعاني البعض فيها من هذه الظاهرة، هذا علاوة على أن الحكومة تتحرك أساسا في هذا الملف بسبب الضغط الخارجي، ولا يهمها حال الناس، فالحكومة تسمع من الخارج وتصم آذانها عن الداخل"، حسبما يقول.
ويضيف ولد الوديعة أن أكثر من تعرضوا للظلم في هذا الملف هم فئة "الحراطين"، وتعني الكلمة، في أحد التفسيرات، "حر طارئ" بمعنى من حصل على حريته بشكل طارئ أو مؤخرا بعد أن عانى من العبودية. وهناك تفسير آخر للكلمة، وهي أن أصلها هو "الحراثين"، إي من كانوا يعملون في حرث الأرض وزراعتها، حيث كانت هذه مهنة الكثيرين ممن عاشوا حياة الرق. وتمثل فئة "الحراطين" إحدى المكونات الأساسية للمجتمع الموريتاني، ويعود أبناؤها لأصول أفريقية لكنهم يتحدثون العربية، علاوة على فئتين أخرتين، وهما "البيضان" أو أصحاب البشرة البيضاء، وهم ينتمون لقبائل عربية وأمازيجية، بالإضافة إلى الأفارقة الذين لا يتحدثون العربية، وينطقون بلهجات أفريقية أخرى، وكل من ينتمون لهذه المكونات الثلاثة من المسلمين. ويوضح ولد الوديعة أن المجموعات الأفريقية في موريتانيا، مثل من يتحدثون اللغات الولفية والسونوكية والبولارية، مارست بدورها العبودية ضد أبناء جلدتها، ولم تقتصر ممارسة العبودية على القبائل العربية والأمازيجية فقط، وأن منظمة "نجدة العبيد" تحارب ممارسات العبودية سواء قامت بها قبائل عربية أو أمازيجية أو أفريقية.
ويضيف سيدي محمد ولد محم أن الدولة لم تكتف بتجريم العبودية منذ عام 2018، بل أصدرت قانونا في عام 2017 يجعل من العبودية جريمة ضد الإنسانية، وهو مالم يحدث في مناطق أخرى في أفريقيا توجد بها ظاهرة الاسترقاق، مثل مالي والنيجر وجنوب الجزائر، ولكن لا يتحدث عنها أحد نظرا لأن القانون هناك لا يجرم الاسترقاق كما هو الحال في موريتانيا. ويشير إلى أن هناك مجموعة أفريقية تمارس العبودية ولا تحظى ممارساتها بتغطية إعلامية أو اهتمام دولي، مثل المجموعة الإفريقية الناطقة باللغة السونوكية التي تقوم بممارسة العبودية على طبقات من أبنائها إلى درجة أن العبيد يدفنون في مدافن خاصة بهم، ولا يدفنون مع السادة.
نسبة العبودية في موريتانيا
ونتيجة كل التعقيدات السياسية والاجتماعية المرتبطة بملف العبودية في موريتانيا، نجد أن هناك تقديرات مختلفة حول حجم من يعانون من الاسترقاق في الوقت الراهن. إذ ترى منظمة العفو الدولية أن عدد الأشخاص الذي يعيشون تحت قيود الرق في عام 2016 بلغ نحو 43 ألف فرد، وهو ما يمثل نسبة 1% من السكان في موريتانيا. وأدانت العفو الدولية في تقرير أصدرته في مارس/آذار 2018 "القمع المتزايد الذي يتعرض له المنظمات والأفراد الذين يجرؤون على إدانة ممارسات الرق والتمييز، وكذلك إنكار الحكومة لوجود هذه المشكلة". غير أن هذه النسبة ترتفع كثيرا في تقديرات مبادرة "انبعاث الحركة الانعتاقية"، وهي مبادرة غير معترف بها من قبل الدولة الموريتانية، ولم تحصل على الترخيص الذي يمكنها من العمل بشكل قانوني، ويترأسها بيرام ولد العبيدي. وحسبما قال بيرام في مقابلة سابقة مع بي بي سي عربي فإنه بعد عمليات بحث قامت بها مبادرته، "اتضح أن نحو 20% من الشعب الموريتاني مازالوا يعيشون حياة العبودية، ويعملون بلا راحة وبلا تعويض، ولا يدخلون المدارس وليس لهم أوراق مدنية". ولكنه أوضح أن الوضع الحالي قديم يعود إلى عهد الاستعمار الفرنسي الذي سعى للحفاظ على مصالحه الاقتصادية بأن عقد اتفاقا مع قادة القبائل العربية والامازيجية يقضي بالسماح لهم بالاحتفاظ بعبيدهم مقابل أن يخضعوا لفرنسا ويقبلوا بسيادتها. وبعد الاستقلال حرصت الطبقة الحاكمة في موريتانيا على تكريس نفس الأوضاع، "لأن من يحكمون موريتانيا هم أنفسهم من يستفيدون من وجود العبيد"، على حد وصف بيرام.
ولكن اللافت للنظر ذلك التفاوت الكبير بين نسبة العبودية في موريتانيا كما يقدمها بيرام ولد العبيدي، وهي نسبة 20%، ونسبة العبودية التي تقدمها منظمة العفو الدولية، وهي نسبة 1%، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن ملف العبودية موضع صراع سياسي بين بيرام وبين الحزب الحاكم. ويؤكد يربة ولد صغير، عضو المكتب التنفيذي لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية والمكلف بملف حقوق الإنسان في الحزب، أنه يتم تضخيم أرقام العبودية في موريتانيا لتحقيق مكاسب سياسية، وأن الدولة لم تكتف فقط بتجريم العبودية، بل أسست مبادرة "تضامن" لمحاربة مخلفات ظاهرة الإسترقاق، لكن تبقى المشكلة الكبرى لمن عانوا من العبودية هي الفقر.
التوظيف السياسي لملف العبودية
غير أن هناك جانبا آخر من الصورة يوضحه سيدي محمد ولد محم، رئيس الحزب الحاكم، حزب الإتحاد من أجل الجمهورية، وزير الثقافة، والناطق باسم الحكومة، وهو أن ملف العبودية يتم تضخيمه وتوظيفه لأهداف سياسية باعتباره ورقة ضغط على موريتانيا. ويشير على سبيل المثال إلى أن التقرير الأمريكي عن حقوق الإنسان في أفريقيا في عام 2008 قال إن العبودية غير موجودة في موريتانيا، ولكن هناك فقط آثار للظاهرة. ثم عاد نفس التقرير في عام 2009، بعد طرد السفير الإسرائيلي في موريتانيا، إلى الحديث عن ممارسة العبودية في موريتانيا في تناقض واضح لا يمكن تفسيره إلا بأنه ضغط سياسي. ومثال آخر وهو تسخين ملف العبودية وقت المفاوضات بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي حول حصص الصيد في سواحل موريتانيا، التي تتمتع بثروة سمكية هائلة، وذلك بهدف الضغط على موريتانيا. لكن الحكومة قررت وقتها استبعاد عائدات الصيد من الميزانية، في إشارة لاستعدادها للتفاوض لفترة طويلة دون ضغوط، وكانت النتيجة أن هدأ ملف العبودية. هذا مع ملاحظة أن فرنسا التي استعمرت منطقة غرب أفريقيا منذ عقود طويلة لم تحرر عبدا واحدا، كما يقول.

Comments

Popular posts from this blog

30周年祭:博帕尔毒气泄漏遗毒犹存

评论通过管理员审核后翻译成中文或英文

الذكريات الزائفة "تعزز انتشار" الأخبار الكاذبة